فوجئنا في الآونة الأخيرة بالضجة التي أحدثها روبوت المحادثة "شات جي بي تي"، الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في الإجابة عن أسئلة المستخدمين بطريقة إبداعية، وثار على مواقع التواصل الاجتماعي جدل واسع حول قدراته المذهلة في محاكاة أساليب البشر، الأمر الذي أظهر روبوتات المحادثة وكأنها أقصى إنجاز حققه الذكاء الاصطناعي في تاريخه، لكن هل هذا صحيح؟
في الواقع، إذا أردت أن تعرف إنجازات الذكاء الاصطناعي الحقيقية، فدعك من تلك الضجة، وتعال نخبرك كيف أحدثت برامج "الذكاء الاصطناعي" ثورة حقيقية في مجالات الطب، بعدما حلت أحد أكبر ألغاز علم الأحياء في العصر الحديث.
1- البروتين العصي على الفهم
يحتوي الحمض النووي الموجود في نواة الخلايا البشرية على المعلومات الضرورية لتشكيل البروتينات في الجسم، وهي تشبه خريطة وراثية تحتوي على نحو 20 ألف بروتين تُشكِّل في مجملها لبنات البناء الأساسية للكائنات الحية.
في عام 2021، استُخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بهياكل الغالبية العظمى من بروتينات جسم الإنسان. كان هذا حدثا ثوريا، نظرا لأن فهم أشكال البروتينات أمر بالغ التعقيد والصعوبة وبالتبعية التكلفة، على أهميته الشديدة في تطوير واكتشاف العقاقير الجديدة، مما قد يساعد في علاج كثير من الأمراض التي عجزنا حتى اليوم عن إيجاد دواء مناسب لها.
للتوصل لتلك النتائج، استخدم العلماء برنامج الذكاء الاصطناعي الجديد "ألفافولد" (Alphafold) للتنبؤ بهياكل 58% من الأحماض الأمينية المكونة للبروتينات البشرية، وفي النهاية تمكَّن البرنامج من التنبؤ بهياكل 350 ألف بروتين مكوِّن لأجسام البشر والكائنات الحية الأخرى، الأمر الذي يُعَدُّ أهم مساهمة للذكاء الاصطناعي في تطور الطب حتى يومنا هذا.
تعتمد برامج "الذكاء الاصطناعي" مثل "ألفافولد"، الذي طورته شركة "ديب مايند"، على "التعلم الآلي"، إذ يجري استخدام خوارزميات ونماذج رياضية وبيانات تجعل تلك البرامج قادرة على التعلم بشكل يشبه البشر، وبالتبعية تطوير معارفها ذاتيا.
2- اكتشاف علاج لسرطان الكبد في 30 يوما
لم يكن التنبؤ بهياكل البروتينات هو العمل الثوري الوحيد لبرنامج الذكاء الاصطناعي "ألفافولد"، ففي يناير/كانون الثاني الفائت، نشرت مجلة "علوم الكيمياء" (Chemical science) البحثية دراسة فارقة قد تبشر ببدء حقبة جديدة في عالم الصناعات الدوائية، وذلك بعدما تمكَّن البرنامج من اكتشاف عقار جديد مرشح بقوة لعلاج سرطان الخلايا الكبدية.
يُعَدُّ سرطان الخلايا الكبدية (HCC) أكثر أنواع سرطان الكبد شيوعا، ويحتل المركز الثالث على قائمة وفيات السرطان بحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية عام 2020، بعدما تسبب في وفاة 830 ألف شخص حول العالم، وهو عدد كبير لا يفوقه سوى وفيات سرطان الرئة التي تجاوزت المليون ووفيات سرطان المستقيم التي تجاوزت 900 ألف حالة.
تُعَدُّ هذه الدراسة هي أول تطبيق عملي لبرنامج الذكاء الاصطناعي "ألفافولد" في مجال صناعة الأدوية؛ إذ استُخدم البرنامج لفحص سرطان الخلايا الكبدية لبحث نقاط ضعف تلك الخلايا، التي بمجرد اكتشافها يعمل برنامج آخر على تحديد البروتين الخاص بالعلاج، وعن طريق التنبؤ بهيكل هذا البروتين من خلال ألفافولد، تصبح عملية توليد الجزيئات العلاجية الخاصة بهذا البروتين أمرا سهلا، ينقصه فقط الخضوع للاختبارات البيولوجية، ومن ثم مرحلة التجريب على البشر.
عادة ما تستغرق عملية اكتشاف دواء جديد وتطويره أكثر من عقد من الزمان، لكن الدراسة الأخيرة توضح كيف يمكن للذكاء الاصطناعي تسريع عملية اكتشاف الأدوية الجديدة واختزال سنوات البحث، بعدما تمكن "ألفافولد" من المساعدة في تطوير علاج تجريبي لسرطان الخلايا الكبدية في غضون 30 يوما فقط.
3- الكشف المبكر عن سرطان الثدي
لم يكن سرطان الخلايا الكبدية (HCC) هو المرض الخبيث الوحيد الذي أظهر فيه الذكاء الاصطناعي نتائج واعدة، إذ استُخدمت البرامج الذكية مؤخرا في الكشف المبكر عن سرطان الثدي، الذي اشتهر لسنوات طويلة بصعوبة التنبؤ به، مما تسبب في معاناة آلاف السيدات اللواتي بدأن العلاج بعدما فات الأوان.
كانت البداية عندما شُخصت ريجينا بارزيلاي بسرطان الثدي عام 2014، وهي باحثة في مجال الذكاء الاصطناعي، لكن التشخيص جاء متأخرا للغاية، الأمر الذي جعلها تخشى فقدان حياتها وتتساءل عما سيحدث لطفلها بعد ذلك. سيطرت على ريجينا حينها رغبة قوية في أن تُجنِّب العديد من السيدات تلك التجربة الصعبة، وسعت بكل جهدها لتطوير نظام قائم على الذكاء الاصطناعي بإمكانه ليس فقط الكشف المبكر عن سرطان الثدي، ولكن التنبؤ إذا ما كان المريض معرضا للإصابة بالمرض في غضون السنوات الخمس القادمة.
تلك التكنولوجيا الواعدة أصبحت قادرة اليوم على إنقاذ آلاف الأرواح، بعدما تمكن برنامج للذكاء الاصطناعي من استخراج الأنماط الفريدة التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالمرض. جاء ذلك بعد تزويد البرنامج بالبيانات اللازمة من السجلات الطبية للمرضى وآلاف الصور الشعاعية للثدي، حتى أصبح قادرا على فهم الملاحظات التشخيصية المبكرة للمرض، والأكثر من ذلك التنبؤ بالأنماط الخاصة باحتمالية الإصابة المستقبلية.
في هذا السياق نشرت مجلة "نيتشر" البريطانية عام 2021 دراسة أخرى، تبشر بقدرة الذكاء الاصطناعي على الكشف عن سرطان الثدي باستخدام الموجات فوق الصوتية، وهو أمر كان شائكا بعدما اشتهرت أجهزة التصوير بالموجات فوق الصوتية في السابق بإعطاء نتائج إيجابية خاطئة فيما يتعلق بالكشف عن المرض.
طوَّر الباحثون في هذه الدراسة نظاما للذكاء الاصطناعي ذا دقة عالية وقادرا على الكشف عن سرطان الثدي من خلال صور الموجات فوق الصوتية، ويخفض معدلات النتائج الإيجابية الخاطئة بنسبة 37.3%، وهو ما سلط الضوء على إمكانات الذكاء الاصطناعي المستقبلية في الكشف عن سرطان الثدي بكفاءة وإعطاء نتائج أكثر دقة.
4- الطب النفسي أيضا
ولا يقف الأمر عند حدود البروتينات، بل يمتد إلى تشخيص أعقد الأمراض، مثل الأمراض النفسية التي يتطلب تشخيصها مجموعة من المعلومات الذاتية والمتغيرة، مثل الحالة المزاجية وأنماط النوم ومقدار النشاط اليومي، وغير ذلك من المعلومات التي يصعب رصدها بدقة وتجعل عملية التشخيص تعتمد في جزء كبير منها على خبرة الطبيب.
الصعوبة نفسها يواجهها الطبيب النفسي عند التكهن بالنتيجة المحتملة للتدخلات التي يقوم بها، مثل وصف دواء معين أو نظام غذائي أو بدء تدريب نفسي ما. الأمر الذي يشبهه الطبيب النفسي الاستشاري أليكس ديمتريو بالتكهن بتغيرات الطقس، مشيرا إلى أن علم النفس يعتمد بشكل أساسي على معرفة الأنماط، سواء أنماط السلوك البشري أو نمط المرض النفسي ذاته، والقدرة على متابعة تلك الأنماط ورصدها هي التي تُمكِّن الطبيب من عمل تشخيص دقيق للمرض.
كل شيء في حياتنا يعتمد على نمط معين، فالطريقة التي نصنع بها قهوة الصباح مثلا تُعَدُّ نمطا، والخطة التي نضعها قبل البدء في مشروع هي الأخرى تتبع نمطا، الأمر يشبه إلى حدٍّ كبير الرسم الذي يضعه المهندس المعماري قبل البدء في البناء، وهنا يكمن سحر استخدام الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض النفسية.
تعتمد برامج الذكاء الاصطناعي على فرز كميات كبيرة من البيانات، واستخراج الأنماط المتكررة منها، وإذا أُتيح لتلك البرامج البيانات اللازمة لتحليل الحالات المزاجية للمرضى وأنماط النوم ومعدل النشاط اليومي فيمكنها أن تُحدِث قفزة هائلة في تشخيص الأمراض النفسية.
اليوم، تعج هواتفنا المحمولة بكثير من التطبيقات التي تجمع عنا بيانات لم نكن نتخيل أننا نُنتجها، مثل تطبيقات تتبع معدل ضربات القلب وعداد الخطوات التي مشيناها خلال اليوم، وتطبيقات تتبع أنماط النوم والحالات المزاجية. كل هذه البيانات يمكن استخدامها عبر برامج الذكاء الاصطناعي لاستخراج أنماطنا السلوكية التي ربما لا نكون على دراية بها، بل ويمكنها أيضا قياس تأثير التدخلات، مثل نتيجة تجربة دواء جديد أو اتباع تدريب معين، مما قد يجعل تلك البرامج في المستقبل أداة مهمة في التشخيص ومتابعة العلاج.
لا يتوقف الأمر عند مساعدة الطبيب النفسي في التشخيص، بل يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أن تتعدى على دور الطبيب وتمارس عمله في بعض جلسات العلاج. كما رأينا منذ ظهور منصة "يوبر" (Youper) للصحة العقلية، التي تعمل باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي للحد من أعراض القلق والاكتئاب لدى المستخدمين، ومساعدتهم على تجاوز تلك الأعراض باستخدام هواتفهم الذكية.
الأمر يبدو وكأنه جلسة علاج عادية، لكنها استبدلت المعالج النفسي ببرنامج ذكاء اصطناعي، ووفقا لدراسة إكلينيكية بجامعة ستانفورد نشرت في يوليو/تموز 2021، انخفضت بالفعل معدلات القلق والاكتئاب لدى مستخدمي المنصة بنسب تراوحت ما بين 10-24% خلال أسبوعين متتاليين من الاستخدام، الأمر الذي جعل البعض يتساءل عن إمكانية أن يحل الذكاء الاصطناعي محل الطبيب النفسي في المستقبل.
5- تحسين الرعاية وتقليل التكاليف
بحسب مقال نشرته كلية الصحة العامة بجامعة هارفارد "تي إتش تشان"، ستُمكِّن تقنيات "الذكاء الاصطناعي" متخصصي الرعاية الصحية من معالجة المشكلات المعقدة التي تواجههم، وتحسين الرعاية الصحية وتقليل التكاليف، حيث تزود هذه البرامج بقاعدة كبيرة من بيانات السجلات الطبية للمرضى وصور الأشعة، التي يمكن لنتائجها أن تساعد الأطباء ليس فقط في التشخيص بل واقتراح العلاجات المناسبة، وهو أمر جرى تطبيقه بالفعل وحقق نجاحا في تشخيص أمراض مثل سرطانات الجلد واعتلال الشبكية لمَن يعانون من داء السكري. الأمر يشبه خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي يستخدمها موقع مثل "فيسبوك" للتعرف على الوجوه، أو ليقترح عليك إعلانات محددة بناء على عمليات البحث التي أجريتها مؤخرا.
في منتصف عام 2021، نشرت منظمة الصحة العالمية تقريرا عن الأخلاقيات اللازمة لاستخدام ذكاء الاصطناعي في مجالات الرعاية الصحية، واعتبرت المنظمة أن البرامج الذكية تحمل إمكانات هائلة لتحسين صحة الملايين حول العالم إذا لم يُسأ استخدامها. تشمل احتمالات إساءة الاستخدام جمع البيانات الصحية واستخدامها بأساليب غير أخلاقية، هذا فضلا عن احتمالية سيطرة المصالح التجارية لشركات التكنولوجيا على حقوق ومصالح المرضى.
يعمل حاليا مصممو البرامج ومقدمو الرعاية جنبا إلى جنب، بحسب التقرير، على حل المعضلات الأخلاقية التي قد تواجههم، وذلك في سبيل تصميم تكنولوجيا حديثة وتطويرها بما يراعي الأخلاقيات وحقوق الإنسان في كل مرحلة من مراحل التطوير، ويحافظ على بيانات المرضى من الاستغلال.
كانت بعض البلدان الغنية قد بدأت بالفعل في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة لتحسين سرعة تشخيص الأمراض وتعزيز الأبحاث الطبية وصناعة العقاقير. لكن التقرير يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسد فجوة نقص الرعاية الطبية في البلدان الفقيرة التي يعوزها الموارد ولا يستطيع مرضاها الوصول إلى الرعاية الطبية اللازمة.